عند الحديث عن التضحية يتبادر للذهن مفهومان: مفهومٌ للتضحية بالنفس والمال لأجل الوطن والحق، دون انتظار للمقابل. هذا المفهوم لست في صدد الحديث عنه الآن
المفهوم الآخر والذي سأطرحه لسببين الأول يتضح من عنوان الموضوع وهو محاولة فهم للتضحية والثاني لأني مستهجن لما يحدث الآن في العلاقات العاطفية أو في الروابط الأسرية أو في الصداقات التي تكاد تخلوا من التضحية الهادفة إلى استمرارية هذه العلاقات وتطويرها حتى لا ينتهي بها المطاف بالبرود وتراكم المواقف الصغيرة الخاطئة
عند إحساس أحد الأطراف بتضحية الطرف الآخر من أجل الإبقاء على العلاقة قائمة لن يترك تلك التراكمات الصغيرة أن تشكل عائقاً كبيراً في العلاقة بعد مدة من الزمن، وهكذا فإن التضحية بحد ذاتها تنهي تلك التراكمات الصغيرة وتسمو بالعلاقة لدرجات أعلى حتى تضحي علاقة ليس من السهل انتهائها بأخطاء صغيرة أو بسوء فهم يحدث بين الحين والآخر، وببرود في المشاعر بين الطرفين لفترات طويلة وهنا استطيع القول أن التضحية تشكل هذه الحماية للعلاقة وباعتقادي فإن عدم التضحية من طرف أو من كلا الطرفين في أي علاقة كانت تسارع في انهائها أو تضعفها لتجعل أي مشكلة صغيرة كبيرة لدرجة تمكنها من التراكم مع غيرها لتصبح غير قابلة للحل
ما التضحية التي أتكلم عنها؟ أهي تلك التضحية العظيمة؟ التي تؤثر على حياة القائم بها أو التي تسبب بالضرر المادي أو الفيزيائي لها؟ لا أعتقد ذلك هذا ليس له علاقة بالحفاظ على العلاقات وبنائها هذا له علاقة بمقدار الإنسانية التي تحملها لا أكثر
هنا أتكلم عن تضحيات بسيطة تضحيات معنوية لا تكلف الكثير لا تكلف سوى التنازل عن بعض القواعد التي يضعها الأفراد في حياتهم، التنازل عن قصورهم التي يعيشون فيها حياتهم، التنازل عن سعيهم ليكونوا مركز كل شيء وأن حياتهم هي الأهم. وأن يصبحوا أكثر مشاركة وعطفاً على مشاعر واحتياجات الآخرين من حولهم، أن يبادروا في الإعطاء لا أن ينتظروا أن يطلب الطرف الآخر ويهين نفسه مرات عديدة (يجدر الذكر أن طلب شيء في ظل العلاقة لا يعد مهيناً إلا في حال رفضه المتكرر دون سبب قاهر للطرف الآخر)، أن يبادروا في إعطاء تلك الأشياء الصغيرة من تبادل أسرار (لا أقصد أسرار أشخاص آخرين بل أسرارهم)، من ترك إنطباع لدى الطرف الآخر أنه على قدر من الأهمية وليس مثله مثل أي شخص من المعارف السطحية
على الشخص جعل الطرف الآخر يؤمن أنه مختلف ومهمٌ بالنسبة له بأعطائه امتيازات لتستمر ولتتقوى العلاقة بينهما، على الشخص الذي يعيش حياته المستقلة والتي يعتقد أنها صحيحة كما هي وأن أي تنازل يقوم به ينقص من ذاته أو ليس على درجة من الأهمية ليقوم بها، عليه محاولة التخلي عن هذا كله ومحاولة مشاركة الطرف الآخر في تفاصيل يحتاجها الطرفان ليستمرا معاً عليه أن يتعلم الإعطاء وليس الأخذ من العلاقة العلاقات يجب أن تُبنى على مبدأ الإعطاء لأنه أكبر دليل على مقدار الحب والتقدير للطرف الآخر، نعم كلنا نستطيع الأخذ من الطرف الآخر ما يستطيع إعطائه لكن الأهم في العلاقات هو الإعطاء لأننا لا نعطي إلا من نُحب ومن نكن له مكانة كبيرة في حياتنا
- مجرد توفير الشخص الآخر الوقت لك لتتحدثا معاً في أي أغلب الأوقات التي تحتاجه بها هذا يعد إعطاءً.
- تجاوز الشخص الآخر الحدود والقيود التي يضعها بينه وبين الأشخاص وجعلك متميزاً عنهم يعد هذا إعطاءً.
- تفكير الشخص الآخر في ظروفك واحتياجاتك تماماً مثل تفكيره في احتياجاته وظروفه هو هذا يعد إعطاءً.
- تكرار طلبك لذات الشيء اللامادي من الشخص هذا يعد إهانة لك وللعلاقة التي لا يعتقد الطرف الآخر أنها أجدر بأن تستمر ولا يعد إعطاءً.
- التضحية بوجود أشخاصٍ يقفون في طريق العلاقة بينك وبين هذا الشخص هذا يعد إعطاءً.
- مشاركة الشخص الآخر تفاصيل حياته ومشاعره معك هذا يعد إعطاءً.
ليست هذه قواعد الإعطاء لأنه ينبع من ذات الشخص ومن تقديره للطرف الآخر وللعلاقة القائمة التي يسعى لاستمرارها والبناء عليها، لكن إن هذه الجمل تعد أمثلة بسيطة في الإعطاء الذي لا يحتاج ثروة مالية بل يحتاج كماً كافياً من الحب للطرف الآخر ليتم
إن عدم مقدرة الأشخاص على الإعطاء والتنازل والمشاركة لهي مشكلة حقيقية بين الأشخاص وتجعل كل التفاصيل الأخرى ليست ذات أهمية ومعنى دون وجود الإعطاء، لأنه وبرأيي الشخصي وبتجربتي الآن لشعور أن تعطي كثيراً ولا تأخذ بالمقابل شيئاً أن تكون ليِّناً في العلاقة وأن تتغاضى عن قواعدك لأجل الأشخاص الآخرين، وفي المقابل أن يعاملك الآخرون بنفس الطريقة التي يعاملون بها معارفهم السطحية ويعتبروك مجرد شخصاً تشكل مشكلة لهم في طلباتك هذا الشعور يقتل ما يمكن أن يكون علاقة دائماً مستقبلاً وما زلنا نتحدث عن الصداقة والعلاقات الأسرية والحب. التضحية تحت أي من هذه المسميات يفهم بأنه تقدير كبير للعلاقة القائمة ويشكل أساساً قوياً للبناء والتطوير في العلاقة ولا يجعلك تعيد النظر منذ بدء العلاقة ولا يجعلك تعيد حساباتك بشأن هؤلاء الأشخاص وبأهمية وجودهم في حياتك من عدمه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق