تجربة الكفاح المسلح بين بريق الشعارات وواقع الإحصاءات
..
منذ انطلاقتها كانت هناك فجوة كبيرة بين شعارات الحركة الوطنية الفلسطينية وإمكاناتها , وبين رغباتها وقدراتها , لذلك لم يكن ثمة أي تناسب بين التضحيات والمعاناة التي تكبدها شعب فلسطين , طوال أكثر من أربعة عقود مضت من عمر حركته الوطنية , وبين الإنجازات التي تم تحقيقها , سواء داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة أو في مناطق اللجوء
هكذا فإن هذه الحركة , على دورها في استنهاض شعب فلسطين وتعزيز هويته الوطنية , وتأكيد حضوره من الغياب والتشتّت في مواجهة المشروع الصهيوني , لم تنجح في الخيارات التي أخذتها على عاتقها , من المقاومة إلى التسوية , ومن الانتفاضة إلى التسوية , ومن بناء الحركة الوطنية إلى بناء الكيان
ومشكلة الحركة الفلسطينية أنها بدلا من وعي الواقع المعقد والمعطيات المحيطة والبناء على الإمكانات , والقياس على الإنجازات , أسّست نفسها على الشعارات وشحذ العواطف وتقديس التضحيات , وعدم المساءلة ونبذ العقلية النقدية , وتغييب الطابع المؤسّسي والديمقراطي في إدارة بناها وعلاقاتها الداخلية
وإذا وضعنا الكفاح المسلح , أو المقاومة , أو حرب التحرير الشعبية , على طاولة التشريح وكشف الحساب , فسنجد أن هذه التجربة لم تكتسب ملامح معينة , ولم تجر أية عملية تأصيل لها , وأنها خضعت غالبا لأغراض الدعاية الإعلامية , والمنافسات الفصائلية , وجرت المبالغة بقدراتها وبتأثيراتها على إسرائيل
أيضاً , فإن هذه التجربة التي بادرت «فتح» لإطلاقها عام 1965 , لم تعط الثمار المرجوّة منها - الكلفة أكثر من المردود معنوياً وبشرياً ومادياً - , ليس بسبب موازين القوى المختلة لصالح إسرائيل فقط , وإنما لأن ممارسة المقاومة , في ظروف الفلسطينيين الاستثنائية والمعقدة , كانت محدودة ومقيدة وموظّفة , ولأن هذه التجربة انعكست سلباً عليهم , بتضخّم جسمهم العسكري , على حساب جسمهم السياسي , وباستخدامهم هذا الجسم خارج أغراضه الشرعية , في مشاريع الهيمنة المجتمعية والمنازعات الفصائلية , وفي التوظيفات الإقليمية والاحتكاكات السلبية ببعض السلطات العربية , وبحكم الطريقة المزاجية والفوضوية في إدارة العمل الفلسطيني , وأيضا بحكم تخلف إدارة هذا الشكل في ظل البنى الهلامية الفصائلية
وعلى أهمية دراسة المعطيات والتمعن في التحليلات , فإن الإحصاءات هي الأكثر مباشرة وشفافية , في تقديم كشف حساب التجربة المسلحة وتبيّن جدواها . هكذا يتبيّن بأن العام المنصرم 2007 كان الأكثر أماناً بالنسبة إلى إسرائيل , مقارنة مع أعوام سبقته , حيث قتل فيه 11 إسرائيلياً فقط , وفي العام 2006 قتل 24 إسرائيلياً , وعام 2005 قتل 50 إسرائيلياً . أما العمليات التفجيرية فغابت تماما - عدا واحدة - عام 2007 , مقابل 6 عمليات عام 2006 و8 عام 2005
في مقابل ذلك قتلت إسرائيل 467 فلسطينياً عام 2007 , عدا عن أن هذا العام شهد مصرع أكثر من 500 فلسطيني في الاقتتال الداخلي , أي أكثر ممن قتلتهم إسرائيل : ذهب ضحية الاقتتال بين الفلسطينيين 345 في العام 2006 , و176 عام 2005
المفارقة أن هذه الأعوام بالذات شهدت صعوداً كبيرا لحركة «حماس» , التي بنت نفسها على أساس معارضة القيادة الرسمية , إلى سدّة السلطة , على أساس مناهضتها للتسوية , وتمسكها بالمقاومة المسلحة , لا سيما وفق نمط العمليات الانتحارية , الأمر الذي يطرح السؤال بشأن التناسب بين الادعاءات والحقائق , وبين الرغبات والقدرات , وبين الشعارات والسياسات , خصوصاً أن «حماس» بعد وصولها الى السلطة نحت نحو التهدئة والهدنة , اللتين كانت ترفضهما في السابق - باستثناء القصف بالصواريخ من قطاع غزة - , سواء لرغبتها أو لعدم قدرتها , وباتت أقرب إلى مفهوم الدولة في الضفة والقطاع , نتيجة انخراطها في السلطة ! كما تطرح هذه المفارقة التساؤل عن مغزى التصارع الداخلي , المجاني والعبثي , بين الفلسطينيين بشأن الكفاح المسلح , الذي يبدو أنه مجرد صراع كلامي , لا يفيد إلا في المنافسات بين الفصائل , وتأجيج العواطف الشعبَويّة لا أكثر , من دون أن يكون لذلك أي أثر ملموس على إسرائيل كما بيّنت الإحصائيات , وكما يدل الواقع السائد
المؤلم في هذا الأمر أن شحنة العنف لدى الفلسطينيين انعكست سلباً عليهم في حل منازعاتهم الداخلية , وبحكم أن ميلهم إلى استخدام السلاح , وعدم قدرتهم على استخدامه ضد عدوهم , أدى إلى توجيهه نحو الداخل , في ظروف الفوضى والتوظيفات المتباينة والضيقة , والعقليات المتخلفة
وبالعودة إلى حساب المقاومة المسلحة في السنوات الأخرى السابقة , فقد قتل في العمليات من الإسرائيليين 109 و199 و426 و201 و43 على الترتيب تنازلياً . وبالمحصلة قتل حوالي 1100 من الإسرائيليين من أيلول 2000 إلى نهاية عام 2007
وللعلم ففي قطاع غزة , الذي انسحبت منه إسرائيل عام 2005 قتل حوالي 230 إسرائيليا فقط منذ احتلاله عام 1967 حتى أواخر العام 2005 , بينهم 38 إسرائيلياً قتلوا خلال 20 عاما في الفترة من 1967 إلى 1987 , وفي الانتفاضة الأولى - أواخر 1987إلى أواخر عام 1993 - قتل 29 إسرائيلياً , ومنذ تلك الفترة حتى انتفاضة عام 2000 , قتل 39 إسرائيلياً في القطاع . وفي السنوات الخمس من المواجهات المسلحة قتل 124 إسرائيلياً في مناطق القطاع , مقابل ألفان و600 من ابناء غزة لقوا مصرعهم في تلك الفترة
وبالمحصلة فإن حساب خسائر الفلسطينيين في المواجهات المسلحة , يفيد بمصرع حوالي 5500 منهم , وجرح 70 ألفا - كثيرون منهم مع إعاقة دائمة - , كما دخل المعتقلات حوالي عشرين ألفاً , هذا إضافة إلى الخسائر الاقتصادية التي تقدر بحوالي 12 بليوناً من الدولارات , والخسائر الاجتماعية التي من ضمنها شيوع الفقر والبطالة , وتدني المستوي الصحي , وانقطاع العملية التعليمية , من دون أن نتحدث عن الخسائر السياسية , على كل الأصعدة , داخلياً وخارجياً
أما إذا عدنا الى تجربة الكفاح المسلح قبل الإنتفاضة , فإن الواقع أشد صدمة , وبحسب آفي ديختر , رئيس جهاز الأمن العام الإسرائيلي - سابقاً - , فقد أصيب جراء الإرهاب من الإسرائيليين - قتلى وجرحى - في السنوات الأربع الأخيرة 11 قتيل 356 جريح , مقابل 4 قتيل 319 جريح أصيبوا بين 1947 و2000 . ويستنتج من ذلك أن المواجهات التي تمت في الأعوام الأربعة الأولى من الانتفاضة كلفت إسرائيل أكثر بثلاثة أضعاف , مما كلفتها تجربة الكفاح المسلح الفلسطيني , طوال الأعوام 1965 إلى 2000 , مع كل التوظيف العسكري والضجيج الإعلامي , والتحشيد العاطفي , الذي ساد في تلك الفترة ! مع علمنا أن ثمة أطناناً من البيانات التي صدرت عن مختلف المنظمات , حول العمليات التي تكبد فيها العدو الإسرائيلي خسائر فادحة في الأرواح والمعدات
والاسوأ من ذلك أن عشرات الألوف من الفلسطينيين قضوا في سبيل هذا الكفاح ضد إسرائيل , وفي أحداث الأردن 1970 , وإبان الحرب الأهلية اللبنانية , وثمة أكثر من مئة ألف جريح ومصاب , وحوالي 500 ألف فلسطيني دخلوا السجون الإسرائيلية , لفترات متفاوتة , منذ احتلال الضفة والقطاع في العام 1967 , ناهيك عن انعكاس هذه التجربة سلباً على الفلسطينيين في الأردن ولبنان
طبعاً الحديث هنا لا يتعلق بشرعية المقاومة المسلحة ضد الاحتلال , بقدر ما يتعلق بجدوى الأشكال النضالية المتبعة بحسب الزمان والمكان والهدف , وامكانية استثمار العوائد المتأتية منها إيجابا , والقدرة على التحكم بها وإدارتها بأنجع ما يمكن . كما أن المسألة هنا تتعلق بعدم حصر المقاومة بالكفاح المسلح , وتأكيدها بكل الأشكال الشعبية الممكنة , ومن ضمنها بناء الذات
وفي الواقع فإن كفاح الفلسطينيين كان يمكن له , ربما , أن يكون أكثر جدوى , لو أداروا كفاحهم بنوع من العقلانية والواقعية , ولكن خسائرهم بالتأكيد كان يمكن أن تكون أقل بكثير , في هذه الحال
على ذلك فإن القيادات الفلسطينية معنية بوعي واقعها ومصارحة شعبها بالحقائق وتوضيح استراتيجيتها . فهل هي مع التسوية والدولة , أم مع التحرير الكامل والمقاومة المسلحة ؟ وهي معنية بترشيد شعاراتها ووسائل عملها , وإدارة كفاحها بأنجع وأقوم ما يمكن , لوضعه على سكة تقلل خسائره وتحفظ إنجازاته وتراكم نجاحاته في صراع يفترض أنه طويل وممتد , في الزمان والأشكال
وهذا هو جوهر العمل القيادي والسياسي الذي لا يرتبط بالعواطف والمزايدات والمنافسات , بقدر ما يرتبط بموازين القوى والتفاعلات والمعطيات السياسية لمراكمة الإنجازات الوطنية
المؤلف: ماجد كيالي